الأحد، 29 يناير 2017

المحاكم الجنائية الدولية وحقوق الانسان

المقدمة:
شهدت المجتمعات الانسانية منذ القدم محاكمات جنائية بكيفيات وصيغ متعددة، وذلك لمحاكمة الاشخاص الذين قاموا بافعال ادت الى انتهاك حقوق انسانية وجرائم ضد البشرية، وبعد الحرب العالمية الثانية التي ارتكبت فيها ابشع جرائم الحرب والقتل والابادة والدمار ترسخ في ضمير المجتمع الدولي وتولد لديه الاقتناع بضرورة انشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان ومعاقبتهم، اذ انشئت محاكم جنائية دولية مؤقتة لحماية حقوق الانسان بطريق مباشر.
وبالرغم من ان المحاكم الدولية التي شكلها الحلفاء تختلف عن المحاكم الدولية المشكلة من قبل مجلس الامن الدولي من حيث طريقة انشائها، اذ ان كلا من محكمة نورمبيرغ ومحكمة طوكيو قد تم تشكيلهما باتفاق بين الدول المتحالفة المنتصرة خلال الحرب العالمية الثانية، في حين نشات كلا من محكمة يوغسلافيا السابقة ومحكمة رواندا بقرار من مجلس الامن، الا انه يلاحظ على هذه المحاكم السابقة انها محاكم مؤقتة وليست دائمة، ولذلك جاءت فكرة انشاء المحكمة الجنائية الدولية الدائمة والتي تم وضعها موضع التنفيذ من خلال اقرار نظام روما الاساس الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية الدائمة ودخوله حيز التنفيذ عام 2002. وسنتناول في هذا البحث كل من المحاكم الدولية المؤقتة، والمحكمة الجنائية الدولية الدائمة.

المبحث الاول: المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة:
بداية يمكن القول بان المجتمع الدولي قد عرف نوعين من المحاكم المؤقته، فكان للمنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية ان شكلوا محاكم لتتابع الخارجين عن احكام القانون الدولي، ثم تكفل مجلس الامن بتكوين محاكم جنائية دولية خاصة لنفس الغرض، لذلك سنتناول هذه المحاكم الدولية من خلال الاتي:
المطلب الاول: محكمتي نورمبيرغ وطوكيو:
بالرغم من ابرام العديد من معاهدات السلام بعد الحرب العالمية الاولى كمعاهدة فرساي عام 1919، الا انها لم تنجح في ترسيخ السلام على ركائز ثابته ومتينه، ولم تستطع عصبة الامم وقف التدهور الحاصل على المستوى الدولي والاخلال بالسلم العالمي، لذلك باتت التصريحات الصادرة من المسؤولين تشكل اساسا جديدا للمسؤولية عن الجرائم الدولية خاصة في وقت الحرب[i]. ففي عام 1941 صرح الرئيس الامريكي روزفيلت بان (الارهاب والترويع لايمكن ان يجلب السلام الى دول اوربا، انه لا يفعل شيئا سوى بث الحقد الذي سيؤدي يوما ما الى قصاص رهيب)، وفي الوقت نفسه صرح رئيس الوزراء البريطاني تشرشل (بان الجزاء على الجرائم المرتكبة يعد من الان من المقاصد الرئيسة للحرب). وفي عام 1943 اكد تصريح سان جيمس بالاس والصادر عن تسع دول اوربية بان (هذه الدول تضع من بين اهدافها ومقاصدها ضرورة توقيع العقاب من خلال قنوات عادلة ومنظمة على المجرمين والمسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية سواء امروا بها او نفذوها او ساهموا في ارتكابها)، وبمقتضى هذا التصريح فقد تم تشكيل لجنة خاصة للنظر في جرائم الحرب المرتكبة وتتكون هذه اللجنة من (17) دولة ممثلة باعضاء عنها، وقد اطلق عليها اسم (لجنة المم المتحدة لجرائم الحرب). ومن ابرز التصريحات الاخرى هو تصريح موسكو عام 1943 الصادر عن الرؤساء (روزفلت-تشرشل-ستالين)، اذ ارسى قواعد اكثر تحديدا في مجال المسؤولية الجنائية الدولية ومحاكمة المجرمين بشكل حاسم، اذ بموجبه يجب ان تطال المحاكمة كل من ارتكب جريمة دولية او جرائم ضد الانسانية[ii].
وبعد استسلام المانيا واليابان اختلف الحلفاء فيما بينهم بشان مرتكبي الحرب، فكان راي البعض منهم عدم الالتجاء الى المحكمة والاكتفاء باصدار قرار مشترك يقضي بان مجرمي الحرب يعتبرون خارجين عن القانون، بيد ان البعض الاخر قد ذهب مذهبا عكسيا تماما ينادي بوجوب اجراء محكمة عسكرية وعادلة، وهو الراي الذي خلص اليه المجتمعون وتبناه مؤتمر لندن الذي كان منعقدا في تلك الاثناء وتمخضت اجتماعاته عن عقد اتفاقية (لندن) الشهيرة في 8/8/1945[iii]. وبمقتضى هذه الاتفاقية التي تتكون من سبع مواد قانونية، فقد تم انشاء محكمة عسكرية دولية عليا لمحاكمة مجرمي الحرب، والحق باتفاقية لندن السابقة نظام المحكمة العسكرية المسمى بنظام محكمة نورمبيرغ.
1-محكمة نورمبيرغ: عقدت هذه المحكمة جلساتها في مدينة نورمبيرغ الالمانية التي كانت المركز الرئيس للحزب النازي، اذ احتوى نظامها على سبعة بنود وتم اصدار لائحة ملحقة بالاتفاق تدعى لائحة نورمبيرغ احتوت على ثلاثين مادة، تتعلق بتشكيل المحكمة واختصاصها وضمانات المتهمين وادارتها وكل مايتعلق باحكامها، وتتكون المحكمة من اربعة قضاة اصليين يمثلون الدول الكبرى واربعة قضاة احتياطيين تعينهم هذه الدول، اما اختصاصها فيتمثل بمحاكمة كبار مجرمي الحرب من دول المحور الاوربي، وجاءت بثلاثة اصناف من المخالفات الدولية التي ارتكبها اعوان النظام الالماني وهي، جرائم ضد السلام، جرائم حرب، جرائم ضد الانسانية. وحكمت هذه المحكمة بالاعدام على عدد من القادة النازيين الالمان امثال المارشال هرما، وفون ينشيروب، والفرد روزنبرغ، وغيرهم من قادة وزعماء المان الذين كانو مسؤولين عن سلسلة من المذابح واعمال القتل الجماعي[iv].
ولا يفوتنا ان نذكر بانه بموجب مبادئ نورمبيرغ وكذلك اتفاقية معاقبة جريمة الابادة الجماعية دولت مسؤولية الاشخاص عن ارتكاب الجرائم التي يعاقب عليها القانون الدولي ويسري ذلك على المسؤولين الحكوميين ولا يحتج باوامر الرؤساء في تنفيذ الفعل الجرمي، وهذه القاعدة مستمدة من قواعد القانون الدولي الانساني، ويعد تدويل المسؤولية الفردية اول اختراق لسيادة الدول وصميم سلطانها الداخلي، وان اتفاقية الابادة الجماعية قد تاسست على فرضية بان هناك حقوق انسان لايمكن انتهاكها بحجة السيادة الوطنية[v].
2-محكمة طوكيو: تم تاسيس محكمة طوكيو على غرار محكمة نورمبيرغ لمحاكمة مجرمي الحرب من دول المحور في الشرق الاقصى، وذلك اثر اصدار القائد العام لقوات الحلفاء في اليابان اعلانا خاصا بانشاء محكمة دولية عسكرية لمحاكمة مجرمي الحرب، وقد تم التصديق على لائحة التنظيم الاجرائي لتلك المحكمة عام 1946 وادخلت عليها العديد من التعديلات حيث كان يستند الى اتفاق لندن ولائحة نورمبيرغ[vi].
يتم تعيين القضاة واعضاء النيابة من طرف القائد العام لقوات الحلفاء بناء على قائمة تقدمها تلك الدول، ويقوم بتعيين رئيس المحكمة وامينها العام، وتعيين نائبا له، وهذا هو الفارق بين المحكمتين في كيفيات التعيين، وبالنسبة لاختصاصها فقد اشتملت على الجرائم التي اقرتها محكمة نورمبيرغ، وادانت محكمة طوكيو 26 متهما ودامت لسنتين[vii].
وهنا تجدر الاشارة الى وجود جملة انتقادات وجهت الى هذه المحاكم منها انتقادات قانونية تتمثل بشرعية المحكمة من حيث تاسيسها ومباشرتها لوظائفها الذي جاء مخالفا لمبدا مهم في القانون الدولي وهو مبدا (لا جريمة ولا عقوبة الا بنص)،وذلك لانها طبقت قانونا لاحقا على الجرائم التي حوكمو عنها المتهمون قبل اتفاق لندن. ومن جهة اخرى جاءت المحكمة بقضاة ينتمون الى الدول المنتصرة وهذا يعني انها محاكم الطرف المنتصر للطرف المنهزم. كما ان السلطات الممنوحة للمحكمة والاختصاصات المخولة لها يوحي بطغيان الطابع السياسي على الطابع القانوني[viii]، فبالرغم من الجرائم التي تم ارتكابها من قبل القوات الالمانية واليابانية، الا انه في الوقت نفسه يمكن القول بان اليابان اصابها ضرر بالغ لم يلحق بدولة اخرى، فقد هاجمتها الولايات المتحدة الامريكية بقنبلة ذرية على مدينة هيروشيما عام 1945 قضت على (180) الف نسمة من مجموع (340) الف نسمة( اي اكثر من نصف سكان المدينة)، وبعد ثلاثة ايام فقط اسقطت قنبلة ذرية ثانية على مدينة ناغازاكي حيث اودت بحياة (8) الاف ياباني، وكذلك شن الاتحاد السوفيتي سابقا حربا على اليابان ودخلت القوات السوفيتية منشوريا وكوريا. ورغم فداحة الجرائم التي ارتكبتها جيوش دول الحلفاء الا انه لم تشكل اي محكمة لمحاكمة مجرمي الحرب الامريكيين او البريطانيين او الفرنسيين عن الجرائم التي ارتكبوها سواء في المانيا ام في اليابان[ix].
المطلب الثاني: المحاكم الجنائية الدولية المشكلة من قبل مجلس الامن:
ذكر الامين العام للامم المتحدة السيد كوفي عنان في كلمة له عند اقرار النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية بانه (اعتقد الكثيرون من دون شك ان الفضائع التي ارتكبت خلال الحرب العالمية الثانية –المخيمات الوحشية، الابادة، المحارق- لايعقل ان تحصل مجددا لكنها رغم ذلك حصلت في كمبوديا وفي البوسنة والهرسك وفي رواندا، لقد اظهر لنا هذا الزمان بل هذا العقد الاخير ان قدرة الانسان على فعل الشر لا حدود لها)[x].
فما حصل من ماسي ومجازر بعد تفكك يوغسلافيا في البوسنة والهرسك والمجازر التي شهدتها رواندا في افريقيا اثر خلاف عرقي، كل ذلك اشعل الفتيل من جديد محركا الدعوات الى ضرورة انشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب، وانتهى الامر الى انشاء محاكم جنائية دولية مؤقتة استنادا الى قرارات مجلس الامن الدولي لعام 1993/1994، خصصت لمحاكمة مجرمي الحرب في تلك الدول، وهي كل من:
1-المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة:
شهد اقليم يوغسلافيا العديد من الصراعات منذ امد بعيد، مهذا نتيجة تعدد القوميات التي تقطن الاقليم، فهناك ستة جمهوريات تحتوي على ثماني قوميات مختلفة من حيث العرف والدين واللغة، فليس هناك اي عوامل للاتحاد في دولة واحدة. وقد بدا الصراع حين اعلنت اولا كل من كرواتيا وسلوفينيا استقلالهما في 25/6/1991، لتندلع في نفس اليوم المعارك بين القوات الاتحادية ليوغسلافيا السابقة والمقاتلين الكرواتيين والسلوفينيين، ثم اعلنت جمهورية مقدونيا استقلالها عبر استفتاء شعبي تم في 8/9/1991، ليبدا منذ ذلك التاريخ نزاع جديد اخر، ومن ثم صوت سكان البوسنا والهرسك بدورهم في 1/3/1992، عبر استفتاء شعبي وجماعي مطالبين باستقلالهم، واعلن الاستقلال في تاريخ 5/3/1992 [xi]، مما نتجت عنه اشتباكات مسلحة بين الميليشيات الصربية والاسلامية والكرواتية، وقد ارتكبت في هذا الاقليم مخالفات خطيرة وجرائم بشعة، شملت اعمال ابادة للسكان وتشردهم وممارست التعذيب والمعاملات غير الانسانية من قتل وتعذيب والتي تعد من الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الانساني، ولقد توالت الشهادات والتحقيقات وتقارير المنظمات الدولية وانتقادات الاعلام لممارسات التطهير العرقي والتهجير القسري للسكان والتي اعادت للاذهان ماعرفته القارة الاوربية اثناء الحرب العالمية الثانية[xii].
كل ذلك ادى الى ان ينهض مجلس الامن بمسؤوليته باعتباره حارسا على امن الانسانية وسلمها كرد فعل للانتهاكات الصارخة للقانون الدولي الانساني وحقوق الانسان التي ارتكبت في اراضي يوغسلافيا السابقة، وتمثل دوره من خلال اصدار العديد ن القرارات التي تتعلق في يوغسلافيا السابقة باعتبارها تمثل تهديدا للسلم والامن الدوليين[xiii].
واستنادا الى التقارير المرفوعه الى مجلس الامن والتي تقرر وجود ممارسات بشعه وانتهاكات للقانون الدولي الانساني فان مجلس الامن اخذ ذلك بنظر الاعتبار واصدر قراره المرقم (808) في 22/2/1993 القاضي باحداث محكمة جنائية دولية لمحاكمة المتهمين المسؤولين عن الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان، وبموجب هذا القرار وبعد خلافات وجدال وعدة مقترحات اوربية تم تكليف الامين العام للامم المتحدة باعداد مشروع النظام الاساس للمحكمة واعطيت مهلة 60 يوم للامين العام وبعد اكماله اعتمده المجلس بقراره المرقم 827 في 25/5/1993 [xiv]، وقد اجريت العديد من التعديلات على النظام الاساس لهذه المحكمة[xv].
وقد كرس النظام الاساس لهذه المحكمة المواد من 11 الى 14 لبيان هيئات المحكمة وقضاتها ومدعيها العام وقلمها، حيث كانت تتالف من 11 قاضي يتم ترشيحهم وانتخابهم بطلب من الامين العام للامم المتحدة من الدول الاعضاء وغير الاعضاء في المنظمة لشغل منصب قضاة في المحكمة، ويكون مقر المحكمة في لاهاي وتكون نفقاتها ومصاريفها من الميزانية العادية للامم المتحدة[xvi]، الا ان ما يؤخذ على المحكمة هو الطابع المؤقت ويعود السبب في ذلك التخصص من خوف الدول وبالذات المسيطرة على مجلس الامن من ان يكون وجود المحكمة مبررا لتقديم قضايا تمس دولا غير مرغوب في ادانتها، فالمحكمة الدولية كانت ذات طابع سياسي، وسبب ذلك يعود الى ان انشائها تم من قبل هيئة سياسية وهو مجلس الامن، والذي يعتمد في قراراته على تقديرات سياسية محكومة بمصالح الدول المؤثرة فيه[xvii]. فبعد ان سنت قوات الناتو الحرب بقيادة الولايات المتحدة على يوغسلافيا، فان المحكمة الدولية كثفت نشاطها بشكل متصاعد، وتحولت الى تابع لحلف الاطلسي لتنفيذ ما يخطط لها، واتضح ذلك بشكل خاص بعد ان تم توقيع اتفاقية التعاون بين الناتو والمحكمة في عام 1996، واصبحت المحكمة بالنسبة للناتو سلاحا للتدخل في الشؤون الداخلية لدول البلقان[xviii]، كما يلاحظ انه بالرغم من الانتهاكات التي ارتكبت من قبل حلف الناتو اثناء الحملة الجوية على يوغسلافيا عام 1998، الا ان المحكمة الدولية لم تلفت النظر لمثل هذه الانتهاكات والكوارث التي كانت تشكل انتهاكا لقواعد القانون الدولي الانساني وقواعد قانون المنازعات المسلحة والتي جاءت اصلا المحكمة لملاحقة مرتكبيها في هذه المنطقه من العالم.
2-المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا:
بعد مقتل الرئيس الرواندي في اشتباك غامض حدثت اعمال عنف ادت الى سقوط العديد من الضحايا من القادة الحكوميين والمدنيين وافراد قوات حفظ السلام، وادى توسع اعمال العنف في اقليم رواندا الى مقتل الالاف من السكان المدنيين وهجرة السكان الى الدول المجاورة، مما ادى الى بعد ذلك لحدوث مجازر شهدتها رواندا اثر خلاف عرقي وما جرى فيها من العديد من جرائم القتل والتنكيل الجماعي التي ارتكبت من قبل (الهوتو) عام 1994، والتي حصدت ارواح اكثر من مليون ونصف المليون شخص من قبائل (التوتسي والهوتو ). كل ذلك دفع حكومة رواندا أن تلجا إلى مجلس الأمن الذي كان قد شكل لجنة من الخبراء للتحقيق في الجرائم المرتكبة في رواندا عام 1994 بموجب قراره المرقم (935) عام 1994[xix].
واستنادا لما تقدم فان مجلس الأمن اصدر قراره المرقم (955) في 18/11/1994 مستندا في ذلك بموجب الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة باعتبار إن الحالة في رواندا تشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين[xx]. ويقضي القرار بإنشاء محكمة جنائية دولية خاصة للنظر في جرائم ضد الإنسانية، وجريمة إبادة الجنس البشري، وكذلك خرق المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع والمتعلقة بتامين المعاملة الإنسانية لغير المقاتلين النظاميين، فضلا عن احكام البروتوكول الثاني الخاص بالنزاعات المسلحة غير الدولية لعام 1977. وضمن اطار هذه المحكمة يلاحظ بانه بالرغم من الميزانية الكبيرة المخصصة لهذه المحكمة التي تضم (16) قاضيا و(800) من العاملين، إلا أنها لم تحاكم إلا مجموعة قليلة من المتهمين، فحتى نهاية آذار عام 2003 اصدرت هذه المحكمة (10) احكام تتراوح بين السجن مدى الحياة وبين البراءة[xxi]، كما يلاحظ بان النظام الاساسي الخاص لهذه المحكمة قد استند على الاسس نفسها التي استند عليها النظام الاساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة من حيث اعتماد نظامها على ميثاق محكمة نورمبرغ وكذلك المشروع الذي اعتمدته لجنة القانون الدولي حول الجرائم الماسة بامن الانسانية والتي من اهم احكامها المسؤولية الفردية الجنائية، وعدم حصانه رؤساء الدول من المسؤولية وعدم جواز الدفع بصدور اوامر من الرؤساء لارتكابه جريمة، وعدم الحكم بعقوبة الاعدام على المتهمين الذين تثبت مسؤوليتهم[xxii].

المبحث الثاني: المحكمة الجنائية الدولية:
بالرغم من انشاء عدد من المحاكم الجنائية الدولية خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، الا ان هذه المحاكم والتي بلغ عددها اربع محاكم دولية كانت جميعها مؤقته، وهو مايعكس الوضع الدولي الذي لا يزال يشكو نقصا فادحا في العدالة والنزاهة، لذا برزت الضرورة على مر العقود المنصرمة الى انشاء محكمة جنائية دولية دائمة لتحقيق ميزان عدالة على المستوى الدولي، وقد جرت عدة محاولات من قبل الامم المتحدة في هذا الصدد الا انها اصطدمت بالواقع الدولي والبيئة السياسية الدولية والصراع الدائر بين المعسكرين الدوليين مما اعاق تشكيلها في تلك الفترة، ولاجل الوقوف على بدايات طرح مشروع المحكمة واختصاصها القضائي والموضوعي والزماني، وكذلك علاقتها بمجلس الامن، سوف نتناول الموضوع بالاتي:
المطلب الاول: تطور انشاء المحكمة الجنائية الدولية الدائمة:
بعد ان تم تاسيس منظمة الامم المتحدة عام 1945، فان موضوع انشاء محكمة جنائية دولية قد حاز على اهتمام الكثير من المهتمين والمعنيين بالشؤون الدولية، وفي هذا الاطار قدم الوفد الفرنسي الى لجنة القانون الدولي التابعة للامم المتحدة مشروعا يتضمن اعطاء محكمة العدل الدولية صلاحية النظر في الجرائم التي يرتكبها رؤساء الدول ومجرمو الحرب، وكذلك يدعو الى تاسيس محكمة جنائية دولية، وبناء على ذلك اصدرت الجمعية العامة للامم المتحدة في دورتها الثالثة القرار رقم (260) عام 1948 وبموجبه طلبت الجمعية العامة من لجنة القانون الدولي دراسة امكانية انشاء جهاز قضائي دولي لمحاكمة الاشخاص المتهمين بارتكاب جرائم الابادة[xxiii]. وقد شكلت الجمعية العامة لجنة خاصة للنظر في هذا الموضوع عام 1950، ونتيجة لتعارض الاراء حول مشروع المحكمة تبنت الجمعية العامة قرارا بانشاء لجنة جديدة عام 1953، الا ان الجمعية العامة قد اصدرت قرارا عام 1954 بينت فيه بان موضوع تاسيس محكمة جنائية دولية متعلق ومرتبط بمشكلة تعريف العدوان من ناحية، وبمشكلة الاتفاق على مشروع قانون الجرائم ضد السلام والامن في العالم من جهة اخرى، وعليه اقترحت تاجيل البت في هذا الموضوع الى ان يتم الاتفاق على تعريف العدوان ومشروع قانون الجرائم ضد السلام والامن في العالم[xxiv].
لكن يلاحظ بان مشروع انشاء محكمة جنائية دولية قد اثير بشكل واضح في مطلع عام 1989 عندما اقترح وفد دولة ترنيداد وتوباجو على الجمعية العامة للامم المتحدة انشاء محكمة جنائية دولية بهدف مكافحة ما اعتبره الوفد احدى الجرائم الدولية المقررة حديثا وهي تجارة المخدرات، ويعد هذا الاقتراح الذي لم يعد جديدا بالنسبة للامم المتحدة بمثابة استجابة لاعمال اللجنتين الخاصتين اللتين انشاتهما الجمعية العامة لوضع مشروع نظام اساسي لمحاكم جنائية دولية في عامي 1951 و 1953. وكلفت الجمعية العامة لجنة القانون الدولي باعداد مشروع النظام الاساسي الجديد، ورغم ان فرص النجاح لم تكن كبيرة جدا، الا ان سلسلة الاحداث التي وقعت بين عامي 1989 و1990 والخاصة بيوغسلافيا السابقة وروندا مهدت الطريق امام جهود اللجنة، اذ لاول مرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية يتم اجراء تحقيقات ومحاكمات على المستوى الدولي لافراد متهمين بانتهاكات للقانون الدولي الانساني[xxv].
وبعد ذلك وفي العام 1994 قدمت لجنة القانون الدولي الى الجمعية العامة اثناء عملها في صياغة قانون الجرائم ضد الانسانية وامن البشرية مشروع النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وعلى اثر ذلك اصدرت الجمعية العامة قرارا بانشاء لجنة متخصصة مفتوحة امام الدول الاعضاء في الامم المتحدة مهمتها استعراض القضايا الرئيسة والفنية والادارية الناشئة عن مشروع النظام الاساس[xxvi]، وبعد عرض الاخيرة لتقريرها اصدرت الجمعية العامة قرارا يقضي بتشكيل لجنة تحضيرية لانشاء محكمة جنائية دولية مهمتها اعداد مشروع نص يستحوذ على اوسع اجماع ممكن من اجل عرضه على المؤتمر الدبلوماسي للامم المتحدة[xxvii].
وفي الفترة الواقعة بين 15 حزيران الى 17 تموز من عام 1998 عقد مؤتمر الامم المتحدة الدبلوماسي المعني بانشاء محكمة جنائية دولية في روما في مقر منظمة الاغذية والزراعة الدولية، وقد شاركت فيه (160) دولة وحضر المؤتمر (16) من المنظمات والكيانات الدولية التي مثلت في المؤتمر بصفة مراقبين بينها ( الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الاحمر والهلال الاحمر وجامعة الدول العربية)، وكذلك (5) وكالات متخصصة فضلا عن هيئات وبرامج تابعة للامم المتحدة وعددها (9) هيئات من بينها المفوضية السامية لحقوق الانسان والمحكمتان الدوليتان ليوغسلافيا السابقة ورواندا، وكذلك حضر المؤتمر (122) منظمة غير حكومية مثلت بصفة مراقبين[xxviii]. وبعد مفاوضات شهدها المؤتمر وما جرت فيه من نقاشات حامية وظهور الكثير من التباين في الاراء والمواقف خصوصا فيما يتعلق باستقلالية عمل المحكمة ودور مجلس الامن في احالة القضايا الى المحكمة بحيث كادت ان تؤدي هذه النقاشات الى تهديد المؤتمر بالفشل، ولكن اعتماد صيغة الصفقة الواحدة (اي اما بقبول النظام الاساس للمحكمة مع التعديلات التي اتفق عليها او رفضه كليا)، فكان من نتيجة ذلك ان تم التصويت على النظام الاساس الذي اعتمد بموافقة (120) دولة وامتناع (21) دولة عن التصويت، واعترضت على النظام (7) دول، وكانت اشد الدول رفضا لهذا المشروع هي كل من (اسرائيل والولايات المتحدة الامريكية)[xxix].
المطلب الثاني: اختصاص المحكمة الجنائية الدولية الدائمة:
ولابد هنا من تسليط الضوء على النصوص المتعلقة بحقوق الانسان موضوع هذا البحث، ففي الاختصاص الموضوعي نصت المادة رقم (5) من النظام الاساسي على ان يقتصر اختصاص المحكمة على اشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي باسره، وللمحكمة بموجب ذلك اختصاص النظر في الجرائم التالية( جريمة الابادة الجماعية، الجرائم ضد الانسانية، جرائم الحرب، جريمة العدوان)[xxx]. وقد تناولت المادة (6) من النظام تعريف الابادة الجماعية وهو نفس التعريف المعتمد في اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الابادة الجماعية والذي يعني : ارتكاب اي فعل من الافعال التالية متى ارتكب بقصد اهلاك جماعة قومية او دينية او عرقية او اثنية، بصفتها هذه اهلاكا كليا او جزئيا، وهذه الافعال هي: (قتل فرد او جماعة، الحاق ضرر جسدي او عقلي جسيم بافراد الجماعة، اخضاع الجماعة عمدا لاحوال معيشية يقصد بها اهلاكا كليا او جزئيا، فرض تدابير تستهدف منع الانجاب داخل الجماعة، نقل اطفال الجماعة عنوة الى جماعة اخرى)[xxxi]
اما المادة (7) والتي تتعلق بالجرائم ضد الانسانية فقد عرفتها بانها الافعال التي ترتكب في اطار هجوم واسع النطاق او منهجي موجه ضد اي مجموعه من السكان المدنيين وعن علم بالهجوم. وتجدر الاشارة هنا الى ان النظام الاساسي لم يشر الى ضرورة ارتباط الجرائم ضد الانسانية مع وجود نزاع مسلح دولي او غير دولي، اما الافعال التي تعد جرائم ضد الانسانية فهي (القتل العمد، الابادة، الاسترقاق، ابعاد السكان وترحيلهم او النقل القسري للسكان، السجن او الحرمان الشديد من الحرية المدنية بما يخالف القواعد الاساسية للقانون الدولي، التعذيب، الاغتصاب او الاستعباد الجنسي او الاكراه على البغاء او الحمل القسري، ممارسة الاضطهاد ضد اية مجموعه محدده من السكان لاسباب سياسية او عنصرية او عرقية او قومية او دينية او اثنية او ثقافية، الاختفاء القسري للاشخاص، جريمة الفصل العنصري، الافعال اللانسانية الاخرى ذات الطابع المماثل التي تتسبب عمدا في معاناة شديدة او اذى خطير يلحق بالجسم او بالصحة العقلية او البدنية). اما المادة (8) فقد اعطت للمحكمة الجنائية الدولية ولاية قضائية على مجموعه واسعة من جرائم الحرب المرتكبة اثناء النزاعات المسلحة الدولية، كما اعطى سلطة محاكمة مرتكبي جرائم الحرب المرتكبة في وقت النزاعات المسلحة الداخلية[xxxii].اما الاختصاص الزمني فقد بينت المادة (11) ان الختصاص الزمني للمحكمة يبدا من لحظة النفاذ، اي انها تمارس اختصاصها على الاعمال والجرائم المرتكبة بعد نفاذ نظامها الاساسي، اي منذ يوم 1/7/2002.
 اما الاختصاص الشخصي فقد بينته المادة (27) حيث نصت على ما ياتي:
1-  يطبق هذا النظام الاساسي على جميع الاشخاص بصورة متساوية من دون اي تمييز بسبب الصفة الرسمية وبوجه خاص فان الصفة الرسمية للشخص سواء كان رئيسا لدولة او حكومة او عضو في حكومة او برلمان او ممثلا منتخبا او موظفا حكوميا لاتعفيه باي حال من الاحوال من المسؤولية الجنائية بموجب هذا الاساسي، كما انها لاتشكل في حد ذاتها سببا لتخفيف العقوبة.
2-  لا تحول الحصانات او القواعد الاجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص، سواء كانت في اطار القانون الوطني او الدولي من دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص.
اما المادة (29) فقد نصت على ان لا تسقط الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة بالتقادم ايا كانت احكامه[xxxiii]، وبهذا الصدد يرى بعض فقهاء القانون الدولي (ان مبدا عدم الرجعية فيما يتعلق بجرائم الحرب والمعمول بها في نظام روما الاساسي لن يمنع امكانية ملاحقة مرتكبي هذه الجرائم امام المحاكم الوطنية او امام محاكم دولية خاصة تنشا لهذا الغرض)[xxxiv].
ثالثا: علاقة المحكمة بمجلس الامن الدولي:
من الحقائق الثابتة التي لا تحتاج إلى مزيد من التأكيد هو أن المحاكم الجنائية الدولية كافة تربطها بالأمم المتحدة علاقة من نوع ما، وتفصيل ذلك، هو أن المحكمة الجنائية الدولية الدائمة لكونها لم تنشأ بقرار اتخذه مجلس الأمن متصرفا بموجب الفصل السابع من الميثاق، وإنما أنشئت بموجب اتفاقية دولية خاصة بها فان العلاقة بينها و بين الأمم المتحدة علاقة تعاون فحسب، وليست علاقة تبعية كما هو الحال بالنسبة لمحكمة العدل الدولية التي تعد واحدا من الفروع الرئيسية للأمم المتحدة وقد ترتب على أن نفقات المحكمة تغطي من الاشتراكات المقررة للدول الإطراف، وكذلك من الأموال المقدمة من الأمم المتحدة في حالة تقديم الشكوى للمدعي العام للمحكمة من مجلس الأمن، واما محكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا، فإن العلاقة بينهما والأمم المتحدة هي علاقة تبعية، ذلك لأنهما أنشئتا بموجب قرارات اتخذها مجلس الأمن متصرفا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بهدف الحفاظ على السلم والأمن الدوليين في تلك المنطقتين من العالم .[xxxv]
اما ما يخص مجلس الامن الدولي فان نظام روما الاساسي قد منح دورا مهما له في ممارسة المحكمة لمهامها باحالة القضايا او التوقف عن النظر فيها، فقد نصت المادة (13) على ان للمحكمة ان تمارس اختصاصها فيما يتعلق بجريمة مشار اليها في المادة (5) من النظام في الاحوال الاتية:
ا-اذا احالت دولة طرف الى المدعي العام على وفق المادة (14) حالة يبدو فيها ان جريمة او اكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت.
ب-اذا احال مجلس الامن متصرفا بموجب الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة حالة الى المدعي العام يبدو فيها ان جريمة او اكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت.
ج-اذا كان المدعي العام يبدو قد بدا بمباشرة تحقيق يتعلق بجريمة من هذه الجرائم على وفق المادة (15)[xxxvi].
ومن الواضح ان نص المادة قد منح مجلس الامن صلاحية حاسمة في ممارسة المحكمة الجنائية الدولية لمهامها، وبهذا الصدد تمسك الكثير من الباحثين والمختصين بالقول بأن مجلس الأمن إنما هو هياة سياسية مكلفة بحل إشكالات ذات طبيعة سياسية، لذلك فإن المسائل التي قد يحيلها على المحكمة لا يمكنها الا تتضمن بعدا سياسيا مما قد يؤدي إلى تسييس دور المحكمة في حين أن هذه الأخيرة لا بد أن تبقى بعيدة عن كل الإعتبارات السياسية، هذا من جهة، ومن جهة اخرى، فان الطبيعة السياسية لمجلس الأمن تؤدي حتما في بعض الحالات إلى عرقلة عمل المحكمة والحد من دورها، فالإحالة عن طريق مجلس الأمن يعني صدور قرار يحصل فيه إجماع للدول دائمة العضوية في المجلس أو لم تستعمل ضده إحدى هذه الدول حق الفيتو، أي قرار الإحالة يجب أن لا تعترض بشأنه أي دولة من الدول دائمة العضوية وهو ما من شأنه أن يعطي للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن إمكانية شل أعمال المحكمة لاعتبارات سياسية بحتة فلا يمكن مثلا أن نتصور إحالة من قبل مجلس الأمن بشأن الجرائم التي ارتكبتها أو ترتكبها اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني أو بحق المدنيين اللبنانيين، وذلك بسبب فيتو أمريكي مؤكد[xxxvii]. وعلى صعيد آخر فإن عرقلة أعمال المحكمة بسبب الإحالة من قبل مجلس الأمن يمكن أن تحصل بشكل غير مباشر بخصوص جريمة العدوان، فالإقرار بوجود هذه الجريمة هو اختصاص حصري لمجلس الأمن، لذا فلا يمكن للمحكمة أن تنتصب لتنظر في جريمة من هذا القبيل إلا بعد أن يكون مجلس الأمن قد أصدر قرارا يقر فيه بوجودها عملا بمقتضيات المادة (39) من ميثاق الأمم المتحدة، أي أنه في حالة جريمة العدوان فإن أعمال المحكمة في مرحلتي التحقيق و توجيه الاتهام يمكنها أن تتعطل أو تتأجل إذا لم يقر مجلس الأمن صراحة بهذه الجريمة[xxxviii].
ان ما تقدم يقودنا الى الوجه الاخر من العلاقة بين مجلس الامن والمحكمة الجنائية الدولية، و هو الوجه المتعلق بإمكانية تعطيل و تجميد عمل المحكمة عندما لا يكون المجلس مصدر الإحالة، فلقد جاء في المادة (16) من النظام الأساسي أنه ( لا يمكن القيام بأي بحث أو متابعة منصوص عليها بالنظام طيلة الإثني عشر شهرا الموالية لتاريخ توجيه مجلس الأمن طلبا في هذا الاتجاه إلى المحكمة، بمقتضى قرار مؤسس على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، و يمكن تجديد الطلب من طرف المجلس طبقا لنفس الشروط)[xxxix].
ان من أخطر التناقضات التي يتضمنها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية هو منح الإمكانية لمجلس الأمن بأن يجمد بقرار أعمال المحكمة، اذ اعتبرت هذه الإمكانية من قبل العديد بمثابة المساس الصارخ بالمادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و المادة (14) من العهد الدولي الخاص  بالحقوق المدنية و السياسية و تناقضا واضحا مع المادة (40) من نظام روما الأساسي المتعلقة باستقلال القضاة و بمبدأ استقلال القضاء عموما كما تعرضت له كل هذه النصوص. لذلك فإن المادة 16 المذكورة تعتبر مساسا بفعلية عمل المحكمة، وباستقلالها و بمشروعيتها، و هي تمنح لمجلس الأمن اختصاص توقيفي كثير الاتساع[xl].
ومما تقدم يتبين ان هاتين المادتين (اي 13، 16)، دليل على تسييس الحماية الدولية لحقوق الانسان في ظل النظام العالمي الراهن الذي يفتقد الى التوازن السياسي وتتحكم فيه الاحادية القطبية، واذا كانت الولايات المتحدة قد عارضت مشروع النظام الاساسي فانها ضامنه تاثيرها السياسي على قرارات مجلس الامن باحالة القضايا ضد الدول المنضمة للاتفاقية ولا يمكن احالة اي قضية ضد الولايات المتحدة لانها ليست طرفا في الاتفاقية، وعندما ناقش مجلس الامن موضوع تجديد مهمة قوات الامم المتحدة في البوسنة والهرسك التي تنتهي في 30 حزيران 2002 استخدمت الولايات المتحدة حق النقض لاسقاط مشروع قرار تجديد مهمة هذه القوات لانها طلبت اعفاء القوات الامريكية من الملاحقة القضائية، وبعد مفاوضات مطولة اصدر مجلس الامن القرار (1422) وبموجب الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة ومستندا الى المادة (16) من نظام روما الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وبعبارة ثانية فان الولايات المتحدة قد استخدمت نفوذها في مجلس الامن لضمان حصانة قضائية لافراد قواتها كونها غير منظمة للنظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية[xli]. وعلى صعيد ذي صله نجد ان الولايات المتحدة قد مارست ضغوط كبيرة لعدم ادراج جرائم الارهاب في نظام روما الاساسي وعدم اقرار المسؤولية الجنائية الدولية، ومرد ذلك قلق الاخيرة من عدم القدرة على التحكم في الاحكام التي تصدرها المحكمة بالرغم من وجود المادتين (13، 16) التي ذكرناهما سابقا، وقد اصبح هذا الامر واضحا من خلال سعي الولايات المتحدة الامريكية لابرام اتفاقيات ثنائية مع اكبر عدد ممكن من الدول، بغرض اعفاء مسؤوليتها من الخضوع لاية اجراءات تجريها المحكمة بشان ارتكاب الابادة الجماعية او الجرائم ضد الانسانية او جرائم الحرب، وهي ما تسمى باتفاقيات الافلات من العقاب او اتفاقيات الحصانه من العقاب، اي ان الانتهاكات والفظائع والاهوال البشعه وارهاب المدنيين والمخافات الجسيمة التي يرتكبها الكيان الصهيوني في فلسطين وترتكبها القوات الامريكية في العراق والتي تعد من اخطر الجرائم التي ترتكب ضد الانسانية هو الذي دفع السياسة الامريكية الى عدم ادراج الجرائم الارهابية-على اعتبار انها من الجرائم ضد الانسانية- واقرار مبدا المسؤولية الجنائية الدولية ضمن النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية[xlii].

 الخاتمة
وختاما يمكن القول ان البيئة السياسية الدولية ستضغط على الدول للانضمام الى نظام روما الاساسي بوصفه احد معايير الحرص على الالتزام بالقانون الدولي الانساني بصورة عامة وحقوق الانسان بصورة خاصة، وبالتالي ستدول قانونيا انتهاكات حقوق الانسان ومسؤولية منتهكيها الجنائية حتى لو كانوا قادة سياسيين او عسكريين الامر الذي يشكل حساسية كبيرة لدى الدول وخاصة النامية منها واقرب مثال على ذلك ما قام به مجلس الامن الدولي باحالته دعوى الى المحكمة الجنائية الدولية عن احدى الجرائم التي تمتد عليها ولاية المحكمة ممثلا بالقرار رقم (1593)، لعام 2005، والذي يقضي باحالة قضية انتهاكات القانون الدولي الانساني وحقوق الانسان في اقليم دار فور في السودان، وبعبارة اخرى ان المحكمة ستحاكم القادة والانظمة السياسية التي لا تتفق سياساتها مع البيئة السياسية الدولية الراهنة والتي تسيطر عليها الولايات المتحدة الامريكية عبر مجلس الامن الدولي سواء اكانت هي طرفا في النظام الاساسي ام لم تكن.
م.د رياض مهدي عبد الكاظم/ كلية القانون/ جامعة واسط/ بحث منشور في وقائع المؤتمر العلمي السنوي لجامعة واسط/ 2009



[i][i] انظر، كمال الجزولي، السودان و المحكمة الجنائية الدولية، مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، القاهرة، 2006، ص31.
[ii] انظر، ضاري خليل محمود وباسيل يوسف، المحكمة الجنائية الدولية:هيمنة القانون ام قانون الهيمنة، بيت الحكمة، بغداد، 2003،ص32.
[iii] انظر، عبد الحميد الزناتي، العدالة الجنائية الدولية والمحكمة الجنائيــــــــــة الدولية الدائمة، بحث منشور على شبكة المعلومات الدولية الانترنيت على موقع اللجنة الشعبية العامة للعدل على الرابط: http://www.aladel.gov.ly/main/modules/sections/item.php?itemid=260
[iv] انظر، بن سالم رضا، حماية البيئة البحرية اثناء النزعات المسلحة في البحار، بن عكنون، الجزائر، 2004، ص170،ص 172، وكذلك انظر، عبد الله رخروخ، مصدر سبق ذكره، ص20، ص22.
[v] انظر، باسيل يوسف، دبلوماسية حقوق الانسان، مصدر سبق ذكره، ص252.
[vi] من الجدير بالذكر بانه غالبا ما تذكر محاكمات طوكيو ونورمبيرغ لوجود العلاقة والتشابه بينهما، الا ان الفرق بينهما هو ان محكمة نورمبيرغ تم تشكيلها بموجب معاهدة دولية، بينما تم تشكيل محكمة طوكيو بموجب تصريح خاص صادر من قبل الجنرال الامريكي دوكلس ماك ارثر بصفته القائد العام لقوات الحلفاء.
[vii] لمزيد من التفصيل، انظر، علي صبيح حسن، تاريخ المحاكم الجنائية الدولية، بحث منشور على شبكة المعلومات الدولية الانترنيت على موقع مركز الشرق العربي والرابط: http://www.asharqalarabi.org.uk/markaz/m_abhath-04-08.htm#_ftn45
[viii] انظر، عبد الله رخروخ، مصدر سبق ذكره، ص 24، ص25.
[ix] انظر، كمال الجزولي، السودان و المحكمة الجنائية الدولية، مصدر سبق ذكره، ص43.
[x] انظر، خطاب كوفي عنان عند اقرار النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية، عام 1998.
[xi] انظر، محمد امين الميداني، المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة –عرض عام لنظام المحكمة وظروف نشاتها، مجلة حقوق الانسان، المعهد العربي لحقوق الانسان، تونس، العدد الاول، 1994، ص29،30.
[xii] انظر، عبد الله رخروخ، مصدر سبق ذكره، ص 26.
[xiii] هناك مجموعه من القرارات الصادرة عن مجلس الامن تخص يوغسلافيا السابقة منها (القرار رقم  713 بتاريخ 25/5/1991، والقرار رقم 727 بتاريخ 8/1/1992، والقرار 740 بتاريخ 7/2/1992، والقرار رقم 757 بتاريخ 6/10/1992، والقرار رقم 764 بتاريخ 13/7/1992، والقرار رقم 771 بتاريخ 13/8/1992، والقرار رقم 780 بتاريخ 6/10/1992)، وغيرها من القرارت.
[xiv] انظر، محمد امين الميداني، المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، مصدر سبق ذكره، ص 36.
[xv] من الجدير بالذكر ان مجلس الامن قد اصدر عدة قرارات عدل فيها النظام الاساس لهذه المحكمة منها القرار رقم (1166، في 13/5/1998 ) وكذلك القرار رقم (1329 في 30/11/2000) وكذلك القرار رقم (1411 في 17/5/2002). ولمزيد من التفاصيل حول النظام الاساسي للمحكمة وتعديلاته انظر، ناتالي فاغنر، تطور نظام المخالفات الجسيمة والمسؤولية الجنائية الفردية لدى المحكمة الجنائية الدولية لوغسلافيا السابقة، المجلة الدولية للصليب الاحمر، العدد 4، 2000.
[xvi] لمزيد من التفصيل انظر، محمد امين ميداني، المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، مصدر سبق ذكره، ص40 الى ص53.
[xvii] انظر، ضاري خليل محمود وباسيل يوسف، المحكمة الجنائية الدولية، مصدر سبق ذكره، ص35.
[xviii] انظر، علي صبيح حسن، مصدر سبق ذكره.
[xix] انظر، نص قرار مجلس الامن الدولي المرقم 935 لعام 1994، بالوثيقةS/RES/935
[xx] انظر، نص قرار مجلس الامن الدولي المرقم 955 لعام 1994، بالوثيقةS/ERS/955
[xxi] استنادا الى التقرير السنوي السابع المقدم من رئيس محكمة رواندا، للفترة من 1/تموز/2001 الى 30/حزيران/2002، بلغ عدد الاشخاص الموجه ضدهم لوائح اتهام (80) متهم، انظر، ضاري خليل محمود وباسيل يوسف، المحكمة الجنائية الدولية، مصدر سبق ذكره، ص46.
[xxii] المصدر نفسه، نفس الصفحة.
[xxiii] انظر، ضاري خليل محمود، وباسيل يوسف، مصدر سبق ذكره، ص 37.
[xxiv] المصدر السابق، ص39.
[xxv] انظر، اوسكار سوليرا، الاختصاص القضائي التكميلي والقضاء الجنائي الدولي، المجلة الدولية للصليب الاحمر، مختارات من اعداد عام 2002، ص 146، ص147.
[xxvi] انظر قرار الجمعة العامة للامم المتحدة في 9/12/1994 الصادر بالوثيقة: A/Res/49/54
[xxvii] انظر قرار الجمعية العامة للامم المتحدة في ، 11/12/ 1995، الصادر بالوثيقة : A/Res/50/46
[xxviii] انظر الوثيقة الختامية للمؤتمر ذات الرمز: A/conf.183/10+
[xxix] انظر، علي صبيح حسن، مصدر سبق ذكره.
[xxx] انظر ، نص المادة (5) من نظام روما الاساسي
[xxxi] انظر، نص المادة (6) من نظام روما الاساسي.
[xxxii] انظر، نص المادتين (7، 8) من نظام روما الاساسي.
[xxxiii] انظر نص المواد (11، 27، 29) من نظام روما الاساسي.
[xxxiv] نقلا عن، علي صبيح حسن، مصدر سبق ذكره.
[xxxv] انظر، محمد هاشم ماقورا، العلاقة بين المحاكم الجنائية الدولية والأمم المتحدة، بحث منشور على موقع اللجنة الشعبية العامة للعدل، على الرابط التالي:                http://www.aladel.gov.ly/main/modules/sections/item.php?itemid=277
 [xxxvi] انظر، نص المادة (13) من نظام روما الاساسي.
[xxxvii] انظر، احمد ادريس، المحكمة الجنائية الدولية و مجلس الأمن،أية علاقة بين القضاء الجنائي  و المحافظة على السلم في العالم؟، بحث منشور في ندوة (المحكمة الجنائية الدولية الطموح- الواقع- و آفاق المستقبل)، أكاديمية الدراسات العليا، طرابلس، 10 - 11 يناير 2007، ص8.
[xxxviii] المصدر نفسه، ص9.
[xxxix] انظر، نص المادة (16) من نظام روما الاساسي.
[xl] انظر، احمد ادريس، مصدر سبق ذكره، ص10.
[xli] انظر، باسيل يوسف، دبلوماسية حقوق الانسان، مصدر سبق ذكره، ص 265، 266.
[xlii] لمزيد من التفاصيل انظر، احمد ابراهيم مصطفى، المحكمة الجنائية الدولية-المفهوم والممارسة-، الاكاديمية الملكية للشرطة، مملكة البحرين، بلا تاريخ، ص9. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق