الأحد، 29 يناير 2017

حرية المعلومات والنفاذ إليها من منظور المجتمع المدني والإعلام ودورهما في المساعدة على كشف الفساد

المقدمة
إن تحقيق حرية الحصول على المعلومات والنفاذ إليها يزيد من إمكانية محاربة الفساد والقضاء عليه، فإمكانية النفاذ إلى المعلومات تعني القدرة على الحصول والوصول إلى المعلومات والبيانات والحقائق أينما كانت. وهذا يعني أن البيئة التي تتوفر فيها القدرة على النفاد إلى المعلومات هي بيئة الشفافية و المكاشفة والمحاسبة وهي عكس بيئة الفساد تماماً حيث يعيش وينمو في ظروف من الغموض والتعتيم وقلب الحقائق التي تساعده على التستر، كما أن جاهزية المجتمعات القادرة على النفاذ إلى المعلومات هي أفضل بكثير من المجتمعات المحرومة.
لذلك فإن إتاحة الحرية الكاملة والمسئولة لمنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام في نشاطها والحصول على المعلومات أمر في غاية الأهمية فهي تخدم المجتمع وتساعد على نشر المعرفة ومن ثم تسهم في أحداث التنمية المطلوبة، لهذا فالمنطق السليم يقضي بتغذية هذه الوسائل بالمعلومات الدقيقة والتي تستطيع من خلالها وضع سياق معرفي وثقافي صادق في ضوء رؤية واضحة وسوية، وبخلاف ذلك فإن المسألة تدعو للريبة والشك وتوحي بأن آليات وأساليب وإدارة المؤسسات الرسمية وغير الرسمية التي تمارس التعتيم إنما تسير باتجاه متناقض مع المعايير والكفاءات وأن الإختلالات قد وصلت إلى الحد الذي يكون التعتيم هو العاصم الوحيد لها نظراً لجسامة المخالفات والفساد، وغياب البعد المؤسسي وبروز المزاجية والارتجال في تسيير العمل وإدارته.
وعلى العموم فإن ظاهرة الفساد في العراق لم تعد مجرد ممارسات فردية خاصة أو ناتجة عن انحراف سلوكي فردي، وإنما تتحرك من خلال (أطر شبكية) (ومافيا) منظمة، وهكذا تكتسب ممارسة الفساد نوعاً من (المؤسسية) في إطار تلك المنظومات الشبكية ويزدهر الفساد وإعادة إنتاجه في البيئة التي تكون آلياتها القانونية غامضة، وسيادة القانون فيها معطلة، وممارسة السلطة غير خاضعة للرقابة والسيطرة. والأكثر خطورة أن هذه (البيئة الحاضنة للفساد) عادة ما تترك العنان للفساد كي يستشري دون أن تمارس دورها في كبح جامحة، إذ تهيئ له الفرصة للنمو والازدهار ليصبح مؤسسه.  
ولتغطية هذا الموضع ارتأينا تقسيم البحث إلى ثلاثة مباحث:
الأول: ويتناول جانب التأصيل النظري للموضوع، مفهوم حرية الوصول للمعلومات، مفهوم المجتمع المدني، مفهوم الإعلام، مفهوم الفساد.
الثاني: ويتناول دور المجتمع المدني والمنظمات الدولية فضلا عن دور وسائل الإعلام في كشف الفساد.
الثالث: مستقبل دور منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام في كشف الفساد وتعزيز النزاهة.

المبحث الأول: الإطار النظري للمفاهيم

أولا: مفهوم حرية الوصول للمعلومات:
 إن حرية الوصول إلى المعلومات تشمل حق الشعب في الوصول إلى المعلومات التي تحتفظ بها السلطات، كما تفرض على السلطات الرسمية التزاما بنشر معلومات هامة[i]، فلقد أصبحت عملية الوصول إلى المعلومات بمثابة الصرخة المدوية للعديد من منظمات المجتمع المدني في جميع أنحاء العالم لان حق الوصول إلى المعلومات والاطلاع عليها يعد المرتكز الأساس لأي نظام ديمقراطي[ii]. فإذا لم يعرف الناس ما يحدث في مجتمعهم، وإذا كانت أعمال الذين يحكمونهم مخفية، لا يمكنهم المشاركة فعلياً في شؤون ذلك المجتمع. وليس الإطلاع على المعلومات حاجةً للناس فقط، بل إنه شرط أساسي من شروط الحكومة الصالحة. لذلك نرى الحكومات الدكتاتورية تلتزم السرية في أعمالها للبقاء أطول مده ممكنه، وهي بذلك تسمح بتعميق عدم الكفاءة والإسراف وازدهار الفساد. وكما أشار العالم الاقتصادي أمارتيا سين (Amartya Sen)، الحائز جائزة نوبل بقوله (لم يكن هناك أبداً من مجاعة حقيقية في بلد يتمتع بحكومة ديمقراطية وصحافة حرة نسبياً. فالاطلاع على المعلومات يسمح للناس بتفحص أعمال الحكومة بدقة وهو أمر أساسي لإجراء مناقشة  مناسبة لتلك الأعمال)[iii].
مع ذلك، تفضل الحكومات الديمقراطية القيام بمجمل أعمالِها بعيداً من عيون الناس، كما تستطيع الحكومات دائماً أن تجد أسباباً للإبقاء على السرية في عملها، ومنها: ضرورات الأمن الوطني، والنظام العام، والاهتمام الشعبي الواسع. وغالباً ما تعتبر الحكومات الوثائق الرسمية ملكاً لها بدلاً من أن تعدها وسيلةً تملكها وتحفظها نيابةً عن الشعب[iv].
ويرجع أساس هذا المفهوم إلى المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ينص على ( أن لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية)[v].
ويرتكز مبدأ كشف المعلومات المطلق على القرينة القائلة إن كل المعلومات تصبح موضوع كشف إلا في حالات محددة. ويحفظ هذا المبدأ الأسس الجوهرية التي تبرز مفهوم حرية الإطلاع كما ويجب أن يضاف هذا المفهوم إلى الدستور لكي يكون حق الحصول على الوثائق الرسمية واضحاً ومن الحقوق الأساسية.
كما ويجب على الهيئات العامة التزام كشف المعلومات، إذ يحق لكل عضو في المجتمع الحصول عليها، ويستفيد من ذلك أيضاً كل شخص يجد نفسه ضمن حدود البلد. ولا يتطلب تطبيق هذا الحق من قبل الأفراد أيّ اهتمام معين بالمعلومات. فعلى الهيئات الرسمية التي تمنع الشعب من الوصول إلى المعلومات، أن تتحمل المسؤولية في تبرير رفضها في كل مرحلة من الإجراءات. بكلمة أخرى، على الهيئة الرسمية العامة أن توضح أن المعلومات التي تمتنع عن إباحتها تأتي ضمن نطاق نظام الاستثناءات المحدود[vi].

ثانيا: مفهوم المجتمع المدني:
إن من القضايا الأساسية التي تعد من مكونات المجتمع الإنساني الحديث الوجود الفاعل لمؤسسات المجتمع المدني بما تحمله من رسالة في توسيع الخيارات المتاحة أمام الناس والحفاظ على مكتسبات ومنجزات المجتمع الاجتماعية والثقافية والعلمية وغيرها [vii].
فلقد تطور مفهوم المجتمع المدني عبر عدة مراحل تاريخية وتعود بداياته إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر[viii]، وعلى الرغم من قدم هذا المصطلح لكنه حتى اليوم ومع كل الانتشار والرواج الذي لاقاه منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي فانه مازال عصيا على التعريف وغامضا وربما كانت له في كل بلد خصائص تجعله مختلفا بعض الشيء عنه في بلد آخر [ix]، فيرى البعض انه (مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح الأفراد ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح وغيرها من المثل الإنسانية الراقية)[x]، كما يعرف بأنه( يتكون من مختلف المؤسسات التطوعية ومؤسسات المجتمع المحلي ومؤسسات البحث والمؤسسات الثقافية فضلا عن هيئات القطاع الخاص ورجال الأعمال حيث يتم اجتماع هذه المؤسسات ضمن إطار الدولة، ويوحدها جميعا الثقافة والقيم المشتركة والرغبة للعمل معا للصالح العام)[xi]، وعرف كذلك بأنه ( مجتمع مستقل إلى حد كبير عن إشراف الدولة المباشر ويقوم بأعمال تطوعية تساعد الدولة في القيام بواجباتها)[xii].
ويجدر القول أن منظمات المجتمع المدني تخلق حالة من الحيوية الفكرية في المجتمعات. وذلك من خلال إدارة النقاش والجدل حول القضايا العامة، وبلورة مواقف موحدة تجاه القضايا التي تهم عامة الشعب، أو القضايا التي تهم فئات بعينها، ومن المأمول أن تلعب هذه المنظمات دوراً في دعم الشفافية والمساءلة في المجتمع، فعلى سبيل المثال نشأت في المجتمعات الحديثة منظمات مثل منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات دعم ثقافة المساءلة والشفافية مثل منظمة الشفافية الدولية ببرلين، هذه المنظمات تراقب أداء كل من الدولة والسوق معا في مجال حماية حقوق الإنسان والحقوق المدنية والاقتصادية لجموع المواطنين وبالأخص العمال، وهو ما يؤدي ـ في نهاية المطاف ـ إلى الحفاظ على نزاهة عملية إدارة شئون الدولة والمجتمع بقدر المستطاع وجعل الممارسات اللاأخلاقية في حدودها الدنيا[xiii].
أما في والوطن العربي فانه مع مرحلة بروز حركات الاستقلال تبلور بروز الأحزاب والنقابات وجماعات الضغط ووسائل الإعلام، وخلال الستينات من القرن الماضي اتضحت ملامح مرحلة قيام مؤسسات مدنية و ولادة مجتمع مدني عربي[xiv]، وفي العموم تعاني منظمات المجتمع المدني في الوطن العربي من العديد من القيود و العوامل المحبطة الناجمة عن تعثر التحول الديمقراطي الحقيقي، وتتفاوت أوضاع هذه المؤسسات من قطر إلى آخر باختلاف النظم السياسية رغم التقائها في تركيز السلطة في يد فرد أو نخبة محدودة تهيمن من خلالها السلطة التنفيذية على السلطات الأخرى وعلى المجتمع[xv].

ثالثا: مفهوم الإعلام:
    يعد هذا العلم علماً قديماً ويعزى سبب انتشاره وتطوره ونفوذه إلى الألآت الحاسبة الالكترونية التي نقلته بوناً شاسعاً إلى مديات متعددة وإلى اتجاهات مختلفة في خدمة الأغراض السياسية والاقتصادية والاجتماعية في حياتنا المعاصرة. وبعد التطور الحاصل في كل حقول النشاط البشري وظف الإعلام الفنون والأدب والفكر ليحدث أنتقالة كبيرة صيرت العالم الكبير إلى قرية صغيرة، ومن الأمكنة والأزمنة المجهولة المتباعدة إلى صور وحقائق زمانية ومكانية واضحة متقاربة، لتتحول حينها الخرافات والأساطير والأوهام إلى علوم وحقائق تاريخية واعتبارية[xvi].   
والإعلام كغيره من العلوم الإنسانية يعاني من عدم  أتفاق حتى الآن على لفظة واحدة معبرة عما أصطلح على تسميته بالأعلام ، فالمصادر الفرنسية تحاول تثبيت مصطلح ( الأعلام ) لدقته وشموله وتلائمه مع التطور التكنولوجي والعلمي، بينما المصادر الأمريكية وهي سباقة في هذا المجال بحكم ازدهار الصحافة وكافة الأجهزة الإعلامية في ولاياتها الشاسعة تصر على مصطلح ( وسائل الاتصال بالجماهير ) رغم عدم تطابقه الدقيق على كافة جوانب المعنى المقصود، وحتى هذه اللفظة باللغة العربية ليست دقيقة ووافية لأنها تعبر عن الجانب النهائي من العملية الإعلامية، الا وهو إرسال المعلومات وتتغافل عن الجانب الأول المعبر عن استقبال المعلومات وبالتالي فالأعلام يعبر عن الأخبار بكسر الهمزة، أي إيصال الخبر ونشره وأذاعته. ومما ذكرناه نستطيع أن نحدد مفهوم  الإعلام بأنه (علم معالجة ألأخبار في أطار من المنطق وتلقائية المعلومات والاتصالات البشرية لمعرفة الأعلام)[xvii].
ويوتجدر الإشارة إلى أن الإعلام وبسبب ما يمتلكه من قدرة التأثير بالجمهور المخاطب قد احتل مرتبة ما يسمى بالسلطة الرابعة إلى جانب السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، فمنذ القرن الماضي بات الصحافيون وأهل الإعلام والسياسة وعامة الناس على وعي متعاظم بأهمية الإعلام[xviii]، ويمكننا أن نقول دون تحفظ أن الإعلام لديه الآن القدرة للتحضير ومتابعة و توجيه وإنجاح العديد من التغييرات السياسية و إشعال الثورات أو التوترات السياسية أو تحريض جهة ما ضد جهة أخرى أو إشعال الفتن و الحروب الطائفية أو العرقية في العديد من دول العالم[xix]. فكم من الحكومات سقطت بما يسمى بالثورات البيضاء بتأثير ونفوذ الإعلام فقط، و من الأمثلة المهمة في الشرق الأوسط هو دور الإعلام في إنجاح التغيير السياسي في إيران وإسقاط سلطة شاه إيران التي كان المراقبين السياسيون آنذاك يعتبرونها مطلقة، وقيام الدولة الإسلامية في إيران.

رابعا: مفهوم الفساد:
لم تعرف الإنسانية تاريخاً محدداً لنشوء ظاهرة الفساد إذ انه قديم قدم التاريخ حيث عرفه الإنسان منذ بداية الخليقة، ولا زال يكتشف في كل يوم شكل جديد ونوع جديد منه، ساهمت تعقيدات الحياة في زيادته وتعدد صوره التي تلقي بظلالها السيئة على المجتمعات[xx]، وتعتبر ظاهرة الفساد ظاهرة عالمية شديدة الانتشار ذات جذور عميقة تأخذ إبعاداً واسعة تتداخل فيها عوامل مختلفة يصعب التمييز بينها، وتختلف درجة شموليتها من مجتمع إلى آخر. إذ حظيت ظاهرة الفساد في الآونة الأخيرة باهتمام الباحثين في مختلف الاختصاصات كالاقتصاد والقانون وعلم السياسة والاجتماع[xxi].
وتتنوع التعريفات الخاصة بمفهوم الفساد إذ يرى البعض بان الفساد هو (خروج عن القوانين والأنظمة (عدم الالتزام بهما)، أو استغلال غيابهما، من اجل تحقيق مصالح  سياسية أو اقتصادية مالية وتجارية، أو اجتماعية لصالح الفرد أو لصالح جماعة معينة للفرد مصالح شخصية معها)[xxii]، في حين أن منظمة الشفافية الدولية تعرف الفساد على انه (سوء استخدام السلطة العامة لربح أو منفعة خاصة، أو انه عمل ضد الوظيفة العامة التي هي ثقة عامة)[xxiii]. أما البنك الدولي فانه يعرف الفساد بأنه (استعمال الوظيفة العامة للكسب الشخصي)[xxiv]، في حين أن صندوق النقد الدولي يذهب بمفهوم الفساد بالقول بأنه(علاقة الأيدي الطويلة المتعمدة التي تهدف باستنتاج الفوائد من هذا السلوك، لشخص واحد، أو لمجموعة ذات علاقة من الأفراد)[xxv].
وفي العموم يقسم الفساد إلى نوعين:
الأول: الفساد الصغير: ويشمل: آلية دفع الرشوة والعمولة، وآلية وضع اليد على المال العام والحصول على مواقع للأقارب[xxvi].
أما الثاني: الفساد الكبير: ويشمل: صفقات السلاح والتوكيلات التجارية للشركات متعددة الجنسية[xxvii].
ومما تقدم يمكن القول أن الفساد هو عكس الاستقامة والنزاهة والإيجابية والبناء، وهو ممارسة وسلوك لتغليب المنفعة الشخصية على المنفعة العامة واستغلال المصلحة العامة لتحقيق المنافع الشخصية دون النظر إلى المنفعة العامة[xxviii]، كما أنه سوء سلوك ذاتي ينعكس على الآخرين وما قد يجنيه الشخص من ذلك السلوك من تحقيق أرباح مادية طائلة، إلا أنها تكون على حساب المجتمع المحيط به وما قد يلحق ذلك من آثار سلبية في المجتمع، والتي تتجسد في ازدياد صور الانحراف وامتدادها عبر شبكات تتاجر وتقامر باقتصاد ومقومات البلد من خلال إضعافه داخلياً للانتقال إلى المتاجرة بمقدراته خارجياً، إضافة إلى غرس صفات الابتزاز والجشع والاحتيال والنصب، نتيجة لوجود نفوس ضعيفة تمارس الفساد بأوجهه وأطره المختلفة[xxix].

المبحث الثاني: دور المجتمع المدني والمنظمات الدولية ووسائل الإعلام في مكافحة الفساد

أولا: دور المجتمع المدني في مكافحة الفساد:
حظيت منظمات المجتمع المدني باهتمام كبير على المستوى الدولي، اعترافا بدورها التنموي، ودورها في مجال العلاقات بين الدول والشعوب فضلا عن دورها الفاعل في كشف حالات الفساد[xxx]. ويجد هذا الاهتمام ترجمته في المؤتمرات الدولية والإقليمية التي تشارك فيها هذه المنظمات، وفي إفراد بنود خاصة بها في البرامج الدولية والإقليمية المختلفة، مثل مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية، ومؤتمر بكين المعني بالمرأة، ومؤتمر الأمم المتحدة للسكان. وكذلك تظهر الدراسات والتقارير الدولية هذا الاهتمام مثل تقارير التنمية البشرية[xxxi].
 يلعب المجتمع المدني دورا فاعلا بل وحاسما في بعض الأحيان في مكافحة الفساد، وقد تزايدت أهميته وفاعليته بعد التطورات العالمية على صعيد النظام السياسي الدولي سيما في مطلع التسعينات من القرن المنصرم، حيث بدا الاهتمام الدولي بمكافحة ظاهرت الفساد من خلال وضع آلاف الوصفات والآليات من قبل المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي لمكافحة هذه الآفة التي تعيق عملية التنمية والتقدم في الدول النامية خصوصا، فبرز المجتمع المدني كشريك فاعل وميداني يساعد الدولة والمؤسسات المالية الدولية للقضاء على الفساد، وبهذا الصدد تقول نانسي بوزويل[xxxii] ( ثمة اتفاق شبه إجماعي اليوم على أن الفساد يُسبب أضراراً غير مقبولة وان التقصير في معالجته تصرّف غير مسئول. فبسبب ضغط المجتمع المدني، المؤلف من منظمات غير حكومية، ومن منظمات لا تبغي الربح ومستقلة، قامت الحكومات والمؤسسات الدولية بعقد اتفاقيات لمكافحة الفساد، والتزمت القيام بأمور أخرى لتحسين نظام الحكم والمساءلة. سوف يظل دور المجتمع المدني مركزياً لأجل تحويل هذه الالتزامات إلى وقائع، كما أن مستقبل أجندة مكافحة الفساد سوف تتوقف على إيجاد تعهدات أعمق من جانب المجتمع المدني، والتأكد من أنه يملك القدرات الفنية والموارد المالية، وإمكانية الوصول إلى المعلومات، والمساحة السياسية المحميّة لتنفيذ رقابته الأساسية ودوره المناصر)[xxxiii].
وفضلا عما تقدم اخذ المجتمع المدني بعدا آخر في عمله من خلال لعبه دورا فاعلا في المواثيق والاتفاقيات الدولية لمكافحة الفساد، ففي اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد أخذت منظمات المجتمع المدني عدة ادوار منها(التعريف بالاتفاقية، شرح بنودها، تنوير الرأي العام حول أهدافها، تعزيز العلاقة بينها وبين البرلمانات، مراقبة تطبيق الاتفاقية الدولية على ارض الواقع)[xxxiv]، وكذلك لعب المجتمع المدني دوراً في مراجعة فرض التطبيق الذي قام به ميثاق منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية حول رشوة الرسميين الحكوميين الأجانب، ومواثيق المجلس الأوروبي لمكافحة الفساد، وهو ما سيقودنا للكلام عن دور المنظمات الدولية في مكافحة الفساد في النقطة التالية.

ثانيا: دور المنظمات الدولية في مكافحة الفساد:
مما تقدم ذكره أعلاه تتضح لنا بعض من أشكال التعاون الدولي للحد من الفساد  في إطار التنظيمات الدولية الحكومية التي تسفر من خلال تحركاتها عن مدى توجه حكوماتها في سبيل محاربة الفساد من عدمه، ومن هذه الجهود ما اعتمدته منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي (OECD) في شهر مايس/ 1997 حول اتفاقية تجرم الرشوة عبر الوطنية وكذلك المطالبة بإنهاء إمكانية خصم الرشاوى من الضرائب التي تعد محاور مهمة في إطار تعاون الشمال مع الجنوب للحد من هذه الظواهر، وكذلك ما اعتمدته منظمة الدول الأميركية، بتوقيعها اتفاقية البلدان الأميركية لمكافحة الفساد في آذار/ 1996 والتي وقعت عليها أكثر من 23 دولة عضواًَ في المنظمة. بوصفها جهداً للتعاون بين الشمال والجنوب ضد الفساد على صعيد القارة المذكورة، وأخيرا التعاون في إطار الاتحاد البرلماني الدولي في مؤتمره المنعقد في بوخارست بتاريخ 13 تشرين أول 1995 الذي أقر فيه تجريم رشوة المسئولين الأجانب علاوة على التعاون في منع غسيل حصائل أموال الفساد غير المشروعة[xxxv].
وتنبع أهمية المنظمات غير الحكومية من منطلق الاستقلالية عن آراء وتوجيهات الحكومات في العمل على مناهضة الفساد إذ تكون فعالياتها ومراصدها على الصعيدين الداخلي والدولي في هذا المجال بعيداً عن ما تتأثر به المنظمات الحكومية للسير في المنحى نفسه وذلك لكون المنظمات الحكومية الدولية أو الداخلية تكون قراراتها تعبر عن آراء رجال السلطة في تلك الحكومات الذين ربما يكونون استخدموا آليات الفساد في إشغالهم لمناصبهم الحكومية مما يجعلهم مدافعين عن الفساد أكثر مما هم مناوئين له. الأمر الذي يؤدي إلى صدور قرارات مجتزأة أو تصدر بشكل كامل ولم تلق جهوداً فعالة لتطبيقها بفعل أولئك المستفيدين من آليات الفساد الذين أوكلت إليهم مهمة تنفيذ تلك القرارات، مما يجعل الهدف المنشود غير قابل للتحقيق من جهود تلك المنظمات.
وإذا ما أمعنا النظر في جهود المنظمات غير الحكومية فسنرى أن فاعليتها تتأتى من كون هذه المنظمات عمل على تكوينها مهتمون بقضايا الفساد، من أكاديميين ورجال أعمال وأعضاء مجتمع مدني بهدف مناهضة الظاهرة نتيجة لاستقرائهم واقعاً غير مرض دون أن تدفعهم ضغوط أو احتجاجات للسير في هذا السبيل، وإنما الغاية التي جمعتهم هي حب النزاهة والرغبة في مجتمع نظيف تتمتع به المؤسسات العاملة بالشفافية التامة في عملها وتخضع فيه للمساءلة الدورية تقوّم تلك الأعمال وترشدها للطريق القويم الذي يتيح في المحصلة حكماً حسناً مرضياً للجميع.
من هنا تتبع أهمية هذه المنظمات التي لا تتأثر بقرارات حكومية أو رؤى أصحاب المناصب وبذلك تكون فاعليتها أكبر وأوسع، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن تتمتع المنظمات المذكورة بالمصداقية الكاملة بعيداً عن سبل التربح السياسي أو العمل بشكل يكون قريباً من السمسرة التجارية وذلك لأن الاستقلالية لا تتفق مع هكذا سلوك مطلقاً يبغي القضاء على الفساد[xxxvi].
ولا يفوتنا أن نشير بهذا الصدد إلى ابرز منظمة في هذا المجال وهي منظمة الشفافية الدولية التي تصدر تقاريرها السنوية بخصوص قضايا الفساد في جميع دول العالم والتي يقول رئيسها بيتر ايغان في تقرير عام 2003( لم يعد للقائمين بأعمال الفساد أماكن للاختباء، فقد مكنت التكنولوجيا التي هي العنصر الأساس لتدفق المعلومات الفوري والدقيق، ووسائل الإعلام وعامة الشعب من محاسبة الشركات والسياسيين)[xxxvii].

ثالثا: دور وسائل الإعلام في مكافحة الفساد:
تقاس حرية أي مجتمع بمدى حرية إعلامه[xxxviii]، وانطلاقا من ذلك يمكن القول انه لا ينكر احد أن للإعلام دور مهم وفعال في نشر ثقافة النزاهة ومكافحة الفساد، وقد استمد أهميته ودوره الفعال من استناده إلى مواثيق  وإعلانات دولية تكرس حق الإنسان في حرية التعبير عن الرأي والوصول إلى المعلومات وحق وسائل الإعلام من ممارسة دورها الفعال في المجتمع، ففي عام 1948 أقرت مجموعة الدول المنضمة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلاناً عرف (بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان) وجاء في نص المادة(19) منه الآتي:
(لكل شخص الحق في حرية التفكير والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستيفاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقييد بالحدود الجغرافية)[xxxix].
وبناء على هذا الإعلان، وما جرى عليه العمل الحر من احترام للحريات المدنية والسياسية للمواطنين، التي من أهم مقوماتها السياسية حرية التعبير عن الرأي، بزغت ظاهرة للعيان وهي أهمية كون الإعلام حراً، حيث جرى العمل في البدء على مبدأ حرية الصحافة إلا أن ما شمل وسائل الإعلام كافة من تطور هائل جعل هذا المفصل المهم يشكل ثورة هي ثورة الصورة، بعد ثورة الصوت، المتمثلة بالتلفزة التي قدر لها فيما تلا من تطور أن تركب الأقمار الصناعية وأن تمر عبر كل القارات وعبر كل الحدود، وعبر كل الأسوار والجدران في ثوان. وبذلك أصبحت الوسيلة الجديدة أوسع من وسيلة حرية الصحافة لتعبر عن ما للرأي العام من آراء ليس الوطني حسب ولكن العالمي أيضاً[xl].
لهذا كله عدت الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى وسائل للرقابة الشعبية على السلطات، يمكن عن طريقها الكشف عن الكثير من الظواهر السلبية وآليات الفساد، فقد عدت رقابة الإعلام السلطة الرابعة في بناء الهيكل السلطوي للدولة والمتكون أساساً من السلطات الثلاث (التشريع، والتنفيذ، والقضاء). فهي السلطة التي أصبحت المنبر الذي من خلاله يعبر الرأي العام عن تطلعاته، ونظرته الفاحصة للأمور، وتقييمه لوضع الجهاز الحكومي ومواطن الخلل وسلبية التصرفات فيه[xli].
ولهذا فقد استفادت الكثير من بلدان العالم التي استوطن فيها الفساد لبضع حقب من السلطة الرابعة ورقابتها وخصوصاً الصحافة في تقييم مؤسساتها، والاستفادة من نقد الرأي العام عن طريقها وكذلك توجيه الرأي العام للحد من الفساد عن طريقها أيضاً المثال الذي نراه جلياً (في حالة بريطانيا خير دليل على أهمية هذا الجهاز الرقابي)[xlii].

المبحث الثالث: مستقبل دور منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام في كشف الفساد وتعزيز النزاهة

أولا: مستقبل دور منظمات المجتمع المدني في كشف الفساد وتعزيز النزاهة:
 على الرغم من المعانات التي تعرضت إليها منظمات المجتمع المدني وعمليات التضييق القانوني والعملي  كم أشار لذلك تقرير إلى ذلك تقرير التنمية الإنسانية العربية[xliii] إلا انه يمكن تحديد عدة ادوار لمؤسسات المجتمع المدني في بناء نظام نزاهة وطني وفي التصدي لظاهرة الفساد ومن هذه الأدوار:
1- التوعية: يمكن لمنظمات المجتمع المدني القيام بدور فاعل في رفع الوعي العام حول ظاهرة الفساد ومخاطرها، فضلا عن تعزيز مبادئ الشفافية والنزاهة والمساءلة بحيث لا تظهر هذه المبادئ من خلال الممارسات كأنها سلوك تجميلي فقط وإنما مبادئ راسخة تكون أسسا واضحة لسلوك المواطنين وتعاملاتهم. وذلك من خلال إتباع إستراتيجية مجتمعية تقوم على[xliv]:
·        بذل الجهود لإبقاء قضايا الفساد في رأس قائمة اهتمامات المجتمع المدني، وترسيخ قيم أخلاقية معارضة للفساد ومقبولة من قبل المجتمع.
·   الاستمرار في تأدية الدور الذي تحاول بعض مؤسسات المجتمع المدني القيام به وهو إرساء أسس الثقافة المدنية عن طريق التعليم، التدريب النشر والإعلام. فهذه الثقافة المدنية تمثل شرطا من شروط التحول في محاربة الفساد وفضح أنواعه والتوعية لنتائجه.
·   السعي من خلال المواطنين لإيجاد قاعدة اجتماعية لمؤسسات المجتمع المدني وإشراك المواطنين في مجموعات ذات مصالح ضد الفساد.
·   من خلال نشر المعلومات عن طريق وسائل الإعلام واطلاع الأفراد عليها في سبيل التوعية وتنمية القيم المناهضة للفساد والدفع باتجاه المشاركة في محاربته وتنمية الإحساس بالمواطنة لدى الأفراد.
·        التعريف بنشرات ومعاهدات مكافحة الفساد وإقامة صلات بالمنظمات والشبكات والخبراء الرواد في مكافحة الفساد.
·   إعداد الدراسات والأبحاث وتجميع المعلومات المتعلقة بظاهرة الفساد محليا وإقليميا ودوليا ووضعها في متناول الجمهور.
·        وضع خطط عمل محددة وقابلة للتحقيق ومتدرجة، والتعبئة في إطار رؤية شاملة وتركيز على الوقاية[xlv].
ويمكننا القول بهذا الصدد انه من الضروري تطوير التعاون بين مؤسسات المجتمع المدني وإنشاء أجهزة فنية مشتركة لها، وتنسيق حملات إعلامية مشتركة لطرح قضايا الفساد على الرأي العام لكي يكون مساندا لها في قيامها بدور حقيقي في محاربته ويمكن أن تشمل هذه الحملات التقارير والملصقات وجلسات الاستماع العامة للمسؤلين. كما يمكن التنسيق في تقبل شكاوى الجمهور ذات العلاقة بقضايا الفساد وبانتهاك حقوقهم وتوعيتهم على هذا الحق، فماسسة المجتمع المدني وانتشاره يجعلان دوره افعل وتقييده من قبل السلطة أصعب، مع أهمية إعداد ميثاق شرف لعمل المنظمات الأهلية[xlvi].  
2- الضغط والتعبئة والتأثير: يؤدي المجتمع المدني دورا حيويا في مقاومة الفساد وذلك من خلال التأثير على وضع السياسات العامة. وتعبئة وإدارة الموارد التي تعزز الشفافية والمساءلة في برامج عمل الحكومات، فضلا عن توفير الضوابط على سلطاتها ومن ثم بتعزيز المساءلة والشفافية في النظام السياسي، كما يمكنها عرض تدابير إصلاحية على الحكومات لما للمجتمع المدني من قدره على العمل على حماية الحقوق، توفير الخدمات المجتمعية والتوفيق بين المصالح وبذلك يعزز المجتمع المدني من مشاركته في الشؤون العامة وتقوية حكم القانون ومحاربة الفساد، فهو يؤدي دورا تكميليا لدور الحكومات وليس بديلا عنها، ويتطلب ذلك[xlvii]:
·   الضغط لإقرار قوانين وأنظمة: إذ نجحت المنظمات غير الحكومية في بعض البلدان في لفت نظر الرأي العام إلى قضايا فساد وساعدت على إحداث إصلاح تنظيمي عن طريق الضغط من اجل سن قوانين تنظم جميع الأموال لأغراض سياسية، قبول الهدايا، والإعلان عن الممتلكات، معالجة تضارب المصالح.
·        الضغط على الحكومة ومطالبتها بنشر المعلومات حول قضايا الفساد لمساهمتها في نشر الوعي حول هذا الأمر.
·        المبادرة إلى عرض تدابير إصلاحية على الحكومة والضغط من اجل تنفيذ برامج الإصلاح.
·   الضغط على الحكومة للعمل بنظام الحكومة الالكترونية الذي يقوم على أساس نشر المعلومات على موقع من مواقع الانترنيت حيث يمكن للمواطنين أن يحصلوا على طلبات لخدمات حكومية متنوعة، مما يؤدي إلى الاتجاه نحو شفافية اكبر وفساد اقل مستقبلا[xlviii].
وهنا يمكن القول أن منظمات المجتمع المدني تنجح أحيانا في لعب دور الوسيط بين الحكومة وأجهزتها ومسئوليها وبين جمهور المواطنين، إذ توفر وسائل عملها آليات للمساءلة من جهة ولإيصال شكاوى المواطنين من جهة اخرى.   
3- بناء شبكات وطنية وإقليمية للنزاهة: من الضروري لنجاح مؤسسات المجتمع المدني وتمكينها من أداء عملها وتقويتها بناء شبكات وطنية وإقليمية ودولية تعمل في مجال محاربة الفساد على مستوى الوطن العربي، ووضع آليات واطر تكفل التبادل المنتظم للمعلومات والخبرات بينها، وتعبئة الجماهير العربية لتحقيق مزيد من التطور في جهود مكافحة الفساد. ففي هذا المجال يمكن لمؤسسات المجتمع المدني [xlix]:
·   إنشاء بنك للمعلومات على المستوى العربي وإنشاء قاعدة بيانات للمنظمات العاملة في مجال محاربة الفساد والتنسيق بينها في تبادل المعلومات والخبرات والتجارب.
·   الإفادة من شبكة الانترنيت في الحصول تلقائيا على أية معلومات أو بيانات تحتاج إليها لممارسة نشاطها وتنفيذ برامجها.
·        إنشاء موقع الكتروني لتبادل المعلومات والخبرات مع النشاط في مختلف البلدان العربية.

ثانيا: مستقبل دور وسائل الإعلام في كشف الفساد وتعزيز النزاهة:
عندما نريد التكلم عن مستقبل دور وسائل الإعلام في تعزيز قيم النزهة فانه من الضروري قراءة مستقبل هذا الدور على الصعيدين الخارجي (الدولي) والداخلي.
أما على الصعيد الخارجي (الدولي) فيمكننا القول انه لا ينكر أي شخص انه بمجرد إلقاء نظره فاحصة للواقع الراهن يتضح أن الكون يتجه نحو مزيداً من التداخل والتشابك وإن إرهاصات العولمة بدأت أكثر وضوحاً تتجلى في رسم مقاربة للواقع الكوني الجديد، وبرزت متغيرات دولية جديدة على صعيد الساحة الدولية تدفع وبقوة نحو صياغة ملامح ثقافية كونية عامة واقتصادية وسياسية وإعلامية واجتماعية وأنماط عيش وتأسيس قوانين وتشريعات موحدة وشراكة (وإن كانت تفتقر للتكافؤ)، وفي هذا الصدد يشير تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة إلى القول بأنه ( يمكن للعولمة أن تهدد الهويات القومية والمحلية، غير أن الحل لا يكمن في التراجع إلى الفكر المحافظ أو الوطنية والانعزالية، بل في صياغة سياسات متعددة الثقافات لتشجيع التعددية والتنوع)[l]، وكل ما تقدم يسير باتجاه تشكيل واقع جديد وأي تعثر أو إعاقة للواقع الجديد يتحمل المجتمع الدولي المسؤولية برمته. وانطلاقا من معطيات الواقع الجديد وتماشيا مع أهدافه كان على المانحين ومؤسسات الدعم الدولية مسؤولية أخلاقية لكشف الفساد في أي بقعة من العالم باعتباره وباء مدمر سريع الانتشار وله القدرة التدميرية لتعطيل الحياة وإعاقة المسارات العلمية المتقدمة، سيما وان المتحكمين بمؤسسات النظام الدولي الجديد يرفعون شعارات التنمية والقضاء على الفقر والمعوزين خصوصا في الدول المتخلفة أو النامية.
والمطلوب لتفعيل دور وسائل الإعلام مستقبلا ما يلي:
1- أن تعمل المؤسسات الدولية والمانحين وبقوة على وقف وإزالة كل مظاهر الفساد وأنواعه.
2- أن السبيل الأهم إلى ذلك هو دعم وسائل الإعلام بكافة الإمكانيات المساندة لها باتجاه الوصول على الحقيقة والمعلومات شاملاً توفير الحماية والتمويل وكل ما يتصل بإفساح المجال للعمل الحر عبر هذه الوسائل.
3- تحرير هذه الوسائل من قيود نمط الملكية والاحتكار والمساهمة في خلق استجابة فعلية للمواثيق والاتفاقيات الدولية بشأن الإعلام باعتبار هذه القنوات والأوعية هي القادرة على كشف الفساد ومصادره وأشكاله المختلفة كما أنها الأقدر على الإسهام في خلق الثقافة الرافضة للفساد والطاردة له من خلال نشر الوعي بين أفراد المجتمع وإشاعة ثقافة وحقوق الإنسان غير المنقوصة. وخلق التفاعل والتواصل بين مكونات المجتمع وشرائحه المختلفة.
أما على الصعيد الداخلي فيمكن القول أن الإعلام يتيح للناس فرصة التدقيق بالأعمال والمصالح الخاصة وقضايا الحكومة، إذ تستطيع وسائل الإعلام خلق مناخ ملائم والمساعد في تأسيس حكم جيد والمحافظة عليه، لكن بالرغم من الاعتراف الدولي بحرية الصحافة لا يزال الصحافيون ووسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم وخصوصا العراق في وضعه الحالي يواجهون عقبات في إيصال الحقائق للمواطنين، وهذه العقبات تتمثل بوجود رقابة فاعلة أو أنظمة تقيد العمل الصحفي أو في عوائق تقف في وجه الحصول على المعلومات الرسمية أو في وجود قوانين تكبح قدرة الصحافيين على التحقق وإيصال الأخبار بحرية[li]، أو بسبب حالة عدم الاستقرار ووجود الإرهاب وعمليات الابتزاز والاختطاف والقتل للصحفيين سيما في العراق.

الخاتمة

يمكن القول إن الفساد موجود في كل بلد تقريبا بغض النظر عن درجة تقدمة وتطوره، غير إن أثره المدمر يشتد في البلدان النامية والحديثة العهد بالنظام الديمقراطي، لأنه يحول دون إحراز أي تقدم في النمو الاقتصادي ويعيق توطيد أركان الديمقراطية في هذه البلدان. لذلك فان معالجة الفساد ليست مجرد مسالة تطبيق القانون، لان من علل الفساد أصلا هو نظام النزاهة في البلد نفسه، وبالتالي يتعين إصلاح النظام الوطني للنزاهة.
ومن خلال ما تقدم ذكره في البحث نرى أن هذه العملية لا تأتي إلا من خلال مشاركة المجتمع المدني في محاربة الفساد والتي تعد عاملا أساسيا لتحقيق أي نجاح، فضلا عن وجود إعلام حر وجريء يبرز الدور الذي يمكن أن تقوم به وسائل الإعلام في كشف الفساد وتعبئة الرأي العام، سيما إذا كان الإعلام يعمل بصورة مستقلة عن رقابة الحكومة ويرئسه أناس أكفاء، فبإمكان وسائل الإعلام أن تفضح المحسوبية والاستغلال في كل قطاعات المجتمع، ويكون هذا العمل متزامنا مع بدء السلطة التشريعية بسن القوانين التي تؤكد حق المواطنين بالوصول والنفاذ إلى المعلومات ويكون هذا الجهد مصحوبا بتعاون ملحوظ من الحكومة لتطبيق وتنفيذ هذه التشريعات والقوانين لكي تستطيع منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام من ممارسة دورها في الفاعل في كشف حالات الفساد وتعزيز النزاهة.
ومما تقدم يمكن القول انه لا يمكن القضاء على الفساد بدون تعاون الأطراف الثلاثة في هذه العملية وهي الحكومة والمجتمع المدني ووسائل الإعلام، فالحكومة تستمد شرعيتها من الشعب وهذه المشروعية تخولها قوة تمكنها من القيام بالإصلاحات لاستئصال آفة الفساد، أما مشروعية المجتمع المدني فمستمدة من الشعب أيضا رغم اختلاف الهيكل عن الحكومة، فهي تسعى للعمل للصالح العام ولا تستهدف الربح بل رفاه المجتمع، أما وسائل الإعلام فهي حلقة الوصل بين الطرفين لأنها تزود الطرفين بالحقائق والمعلومات التي تكشف حالات الفساد، وبهذا الجهد والتعاون يمكن تشكيل نظام نزاهة وطني قوي وفاعل وقادر على كشف حالات الفساد والقضاء عليها ومعالجتها.
م.م رياض مهدي عبد الكاظم/ كلية القانون/جامعة واسط/ بحث منشور في وقائع المؤتمر العلمي السنوي الاول لهيئة النزاهة العراقية 2008.



[i] لمزيد من التفاصيل انظر، توبي مندل، سن القوانين المتعلقة بحرية الوصول إلى المعلومات، بحث منشور على موقع منظمة الشفافية الدولية على شبكة المعلومات الدولية الانترنيت، ص1. www.transparency.org
[ii] جريمي بوب، الوصول إلى المعلومات حق من ومعلومات من؟، بحث منشور على موقع منظمة الشفافية الدولية على شبكة المعلومات الدولية الانترنيت، ص3. www.transparency.org.
[iii] نقلا عن، المصدر نفسه، ص6.
[iv] انظر، حق الوصول للمعلومات، منشورات برنامج المجتمع المدني العراقي، بغداد، 2006، ص ص، 3، 8.
[v] الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، نيويورك، الأمم المتحدة، 1948.
[vi] لمزيد من التفاصيل انظر، حق الجمهـور في المعـرفة(مبادئ في التشريعات المتعلّقة بحرّية الإطلاع)، المادة (19)(هيئة غير حكومية)، بحث منشور على موقع المجلس الدولي للمادة (19). www.gn.apc.org/article19
[vii] عدنان ياسين مصطفى، المجتمع المدني في العراق-التحديات والآفاق-، مجلة الحكمة، بيت الحكمة، بغداد، العدد 36، 2004،  ص60.
[viii] لمزيد من التفاصيل حول التطور التاريخي لمفهوم المجتمع المدني انظر بالتفصيل، توفيق المديني، المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ط1، 1997.
[ix] كريم محمد حمزة، المجتمع المدني والدولة-أوجه التفاعل والتقاطع-، مجلة الحكمة، بيت الحكمة، بغداد، العدد 36، 2004، ص73.
[x] انظر عبد الحسين شعبان، صورة المجتمع المدني بين التصادم والتواؤم، جريدة الجريدة، العدد 203، 25، يناير، 2008، مقال منشور على شبكة المعلومات الدولية الانترنيت على الموقع.  www.aljarida.com
[xi] كامل صالح أبو جابر، مدخل إلى بعض مفاهيم المجتمع المدني- حالة الأردن-، مجلة قضايا استراتيجيه، المركز العربي للدراسات الإستراتيجية، عمان، العدد 1، 2000، ص ص 74، 75.
[xii] صلاح عطية سلطان، إطار عام مقترح للعلاقة بين الأجهزة الحكومية والمجتمع المدني، بحث منشور في المؤتمر العلمي الخامس، (اقتصاد المعرفة والتنمية الاقتصادية)، الاقتصاد والعلوم الإدارية، جامعة الزيتون، الأردن، 2005، ص4.
[xiii] انظر، الدليل الإرشادي لمساعدة منظمات المجتمع المدني على وضع استراتيجيات للحد من الفســـاد الإداري في الدوائر العامة، منشورات برنامج المجتمع المدني العراقي، بغداد،2006،ص ص12، 13.
[xiv] انظر، كريم بقردوني، المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992، ص14.
[xv] انظر، عبد الغفار شكر،ومحمد مورو، المجتمع المدني ودوره في بناء الديمقراطية، دار الفكر، دمشق،  2003، ص 24.
[xvi] انظر يحيى الشيخ زامل، مفهوم الإعلام الحديث وصناعة الخبر، مقال منشور على شبكة المعلومات الدولية الانترنيت على الموقع. www.maktoobblog.com/31/5/2008.
[xvii] انظر، المصدر نفسه.
[xviii] انظر، حسين سعد، الإعلام والأخلاق: نماذج من انحرافات الإعلام الأمريكي والبريطاني خلال الحرب على العراق، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، العدد 325، 2006، ص64.
[xix] لمزيد من التفاصيل حول دور الإعلام وتأثيره على الصعيد الداخلي والدولي انظر، هربرت أ. شللر، المتلاعبون بالعقول، ترجمة عبد السلام رضوان، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1999.
[xx] لمزيد من التفاصيل حول التطور التاريخي لمفهوم الفساد انظر، عماد صلاح عبد الرزاق، الفساد والإصلاح، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، ص ص18، 27.
[xxi] انظر ياسر خالد الوائلي، الفساد الإداري. مفهومه ومظاهره وأسبابه: مع أشارة إلى تجربة العراق في الفساد، مجلة النبأ، مركز المستقبل للدراسات والبحوث،العراق، العدد80، 2006،ص11.
[xxii] انظر، أحمد أبو دية، الفســــــــــــــاد: أسبابه وطرق مكافحته، منشورات الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة – أمان  ، القدس، ط1، 2004، ص2.
[xxiii] Gerard Carney, Conflict of Interest, Ti working paper, Berlin, 1998, p.1.
[xxiv] البنك الدولي للإنشاء والتعمير، تقرير عن التنمية في العالم (1997)، الحد من الفساد والتفرقات التحكيمية للدولة، مركز الأهرام للترجمة والنشر (مترجماً)، القاهرة، 1997، ص112.
[xxv] IMF, Corruption Around the World, Washington, IMF Working Paper, 1998, p. 8.
[xxvi] انظر، مكافحة الفساد مطلب أساس للتنمية الإنسانية في الوطن العربي، منشورات الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة – أمان ، القدس، 2004، ص11.
[xxvii] انظر، محمود عبد الفضيل، الفساد وتداعياته في الوطن العربي، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، العدد 243، 1999، ص ص4، 5.
[xxviii] سلام إبراهيم، الفساد والإفساد في العراق: من يدفع الثمن، مقال منشور في جريدة المدى على الانترنيت. www.almada.com
[xxix] مازن مرسول محمد، في قضايا الفساد ومؤثراته المختلفة، مجلة النبأ، مركز المستقبل للدراسات والبحوث، العراق، العدد80، 2006، ص29.
[xxx] النزاهة والشفافية في المنظمات غير الحكومية الفلسطينية، منشورات مركز بيسان للبحوث والإنماء، فلسطين، 2002، ص11.
[xxxi] انظر، اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا- الاسكوا، 2003. مجموعة دراسات عن دور المنظمات غير الحكومية في تنفيذ توصيات المؤتمرات العالمية وفي متابعتها خلال عقد التسعينات من القرن العشرين: نحو مدونة سلوك، الأمم المتحدة، نيويورك ، ص5.
[xxxii] هي عضو في مجلس إدارة جمعية ترانسبيرنسي إنترناشنال، والمديرة التنفيذية الرئيسية لترانسبيرنسي إنترناشنال - الولايات المتحدة، فرع الولايات المتحدة. وترانسبيرانسي إنترناشنال شبكة من منظمات المجتمع المدني في أكثر من 90 بلداً تعمل مع الحكومات، والمؤسسات الدولية، والقطاع الخاص للحدّ من الفساد والرشاوى.
[xxxiii] نانسي بوزويل، دور المجتمع المدني في تأمين الإصلاح الفعال والمستدام، مقال منشور على موقع وزارة الخارجية الأمريكية على شبكة المعلومات الدولية الانترنيت.www.usinfo.state.gov/journals/journals.htm
 [xxxiv]خليل جبارة، دور منظمات المجتمع المدني في تفعيل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، ألقيت هذه المداخلة في المؤتمر الإقليمي حول "دعم تطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في الدول العربية"، الأردن، 2008، ص ص،21،23.
[xxxv] لمزيد من التفاصيل انظر،عماد  صلاح عبد الرزاق، الفساد والإصلاح، مصدر سبق ذكره، ص ص،240، 241.
[xxxvi] لمزيد من التفاصيل انظر، عبد الله كمال،  ظاهرة انحلال الصفوة (القوادون والسياسة)، دار الخيال، القاهرة ، 1998، ص ص 1، 18.
[xxxvii] انظر، بيتر ايغان (رئيس  منظمة الشفافية الدولية)، تقديم التقرير العالمي  للفساد، 2003، ص1. www.transparency.org
[xxxviii] لمزيد من التفاصيل انظر، تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، إيقونات للخدمة المطبعية، عمان، 2002، ص126.
[xxxix] انظر، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الأمم المتحدة، نيويورك ، 1948.
[xl] لمزيد من التفصيل انظر، محمد حسنين هيكل، كلام في السياسة، الشركة المصرية للنشر العربي والدولي، القاهرة، 2000،  ص 23.
[xli] أحمد فارس عبد المنعم، الديمقراطية ومكافحة الفساد، مصطفى كامل السيد (محرراً) في الفساد والتنمية، مركز دراسات وبحوث الدول النامية، القاهرة، 1999،ص 349.
[xlii] لمزيد من التفاصيل حول دور وسائل الإعلام في كشف الفساد انظر، عماد صلاح عبد الرزاق، مصدر سبق ذكره، ص ص،215، 217.
[xliii] انظر، تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، المطبعة الوطنية، عمان، 2003، ص 49.
[xliv] انظر، المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في مكافحة الفساد، منشورات الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة – أمان  ، القدس، 2004، ص ص، 15، 16.
[xlv] حول هذه النقاط وغيرها من المهام الملقاة على عاتق منظمات المجتمع المدني انظر، امال شلاش، احتياجات مؤسسات المجتمع المدني في العراق، مجلة الحكمة، بيت الحكمة، بغداد، العدد 36، 2004، ص ص، 66، 72.
[xlvi] انظر، الدليل الإرشادي لمساعدة منظمات المجتمع المدني، مصدر سبق ذكره، ص ص، 18، 19.
[xlvii] انظر، المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في مكافحة الفساد، مصدر سبق ذكره، ص ص، 16، 17.
[xlviii] لمزيد من التفاصيل حول موضوع الحكومة الالكترونية انظر، سبهاش بهاتناغار، الحكومة الالكترونية والوصول إلى المعلومات، بحث منشور على موقع منظمة الشفافية الدولية على شبكة المعلومات الدولية الانترنيت، www.transparency.org
[xlix] انظر، المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في مكافحة الفساد، مصدر سبق ذكره، ص ص، 18.
[l] تقرير التنمية البشرية، للعام 2004،الأمم المتحدة، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، مطبعة كركي، بيروت، 2004، ص10.
[li] انظر، بتينا بيترز، دور وسائل الإعلام: شفافية الشركات تغطية أو كشف الفساد، بحث منشور على موقع منظمة الشفافية الدولية على شبكة المعلومات الدولية الانترنيت، ص ص1، 2. www.transparency.org

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق